تعتبر سنة 1944 منعطفاً جديداً في تاريخ الحركة الوطنية حيث انتقلت من المطالبة بالإصلاحات إلى المطالبة بالاستقلال.
فما هي الأسباب التي جعلت زعماء الحركة الوطنية يتقدمون بوثيقة الاستقلال؟ وما هو الدور الذي لعبه الملك محمد الخامس في هذا الحدث؟
دواعي المطالبة بالاستقلال
إن فكرة المطالبة بالاستقلال لم تكن وليدة هذه السنة، ولكن عوامل متعددة داخلية منها وخارجية ساهمت في بلورتها. فمقاومة المغاربة للاحتلال الفرنسي والإسباني انطلقت منذ ما قبل التوقيع على معاهدة الحماية في 30 مارس 1912، حيث ظهرت مقاومة مسلحة للدفاع عن حرية البلاد واستقلالها، وشملت مختلف الأقاليم المغربية واستمرت حتى سنة 1934؛ وقبل أن تخمد هذه المقاومة، انطلقت حركة سياسية في المدن، وتميزت في البداية باعتدال مطالبها، حيث طالبت بإصلاحات وبالمساواة في الحقوق بين المغاربة والأجانب. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية ساهمت ظروف جديدة في خلق تغيير جدري في مواقف الحركة الوطنية من الاستعمار فانتقلت إلى المطالبة بالاستقلال. فما هي هذه الظروف؟
كان من نتائج الحرب العالمية الثانية أنها أظهرت عيوب الهيكل الاستعماري؛ فهزيمة فرنسا أثناء هذه الحرب واحتلال جزء من أراضيها من طرف القوات النازية أسقط هيبتها في عيون المغاربة. وكما عانى المغاربة ظروفاً قاسية أثناء الحرب بسبب استنزاف خيرات بلادهم من طرف قوات الاحتلال مما خلف تدمراً في الأوساط الشعبية التي أصبحت أكثر استعداداً للاستجابة لشعارات الحركة الوطنية. وكان لمبادئ منظمة الأمم المتحدة في احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية تأثير في الحركة الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، كان لإنشاء الجامعة العربية وللتطور السياسي الذي عرفته بلدان المشرق العربي تأثير على المغرب. وكما شجع إعلان الميثاق الأطلسي من طرف الحلفاء في 14 غشت 1941، والذي اعترف بحق الشعوب في اختيار شكل الحكم الذي تريده، على المطالبة بالاستقلال خاصة بعد الإحساس بقرب نهاية الحرب التي تعني تصفية كل المشاكل ومن ضمنها مشكل المستعمرات. وساهم النـزول الأمريكي منذ 1942 فوق الشواطئ المغربية وتأسيس عدة قواعد أمريكية، واجتماع الملك محمد الخامس برئيس الولايات المتحدة الأمريكية روزفيلت في أنفا في 22 يناير 1943 حيث عرض عليه رغبة المغاربة في التخلص من السيطرة الاستعمارية، وكان هذا اللقاء أول لقاء - منذ فرض الحماية - لملك مغربي مع رئيس دولة دون وساطة المقيم العام، وقد ساهم كل ذلك في تقوية الأمل عند المغاربة ودفعهم للمطالبة بالاستقلال.
شخصية محمد الخامس الوطنية
إن التحام السلطان بالشعب لم يكن وليد سنة 1944 حيث قام محمد بن يوسف قبل هذا التاريخ بعدة محاولات للحد من سيطرة فرنسا، واستعمل عدة وسائل للوصول إلى هدفه كمرحلة أولى قبل المطالبة بالاستقلال. ذلك ما يؤكده تقرير وضعته مديرية الشؤون السياسية في 23 مارس 1945. وهذا التقرير عبارة عن ملف سري يوجد في أرشيف إلكي دورسي بباريس[1]. وقد آثرنا الاعتماد على هذا التقرير الذي يعتبر شهادة من طرف فرنسيين لإبراز شخصية محمد الخامس الوطنية.
لقد ظنت الإقامة العامة أنها اختارت محمد بن يوسف لصغر سنه ومكنته من العرش بدل أخيه إدريس حتى تتمكن من فرض سيطرتها عليه، ولتسخره حسب إرادتها، وذلك رغم معارضة بعض الشخصيات الفرنسية وعلى رأسها مارك مستشار الجهاز المخزني آنذاك، والذي كان قد تنبأ بالدور الذي سيقوم به هذا الملك حسب ما ورد في التقرير حيث كان يقول: «لا شك أننا سنتعب من تصرفات هذا الأمير رغم صغر سنه»[2].
واعتبر التقرير أن هذه المتاعب قد تزايدت لأن الإقامة العامة لم تعمل على توجيه هذا السلطان وتأطيره في سنوات حكمه الأولى. فالمقيمون العامون حاولوا استمالته ليجعلوا منه الصديق الحميم لفرنسا ولكنهم لم يتمكنوا من التأثير على شخصيته. يؤكد التقرير على ذكاء هذا الملك وحيويته، حيث كان يعمل ما في وسعه ليتخلص تدريجياً من سيطرة الإقامة العامة وكان يتهيأ لذلك داخلياً وخارجياً.
لقد استطاع محمد الخامس أن يستفيد من سياسة نوكيس[3] الذي حاول أن يتقرب من هذا الملك، ظاناً أن هذه الصداقة قد تساعد على تلاحم العرش المغربي بالحماية. ولكن هذا التقارب قد أدى إلى نتائج عكسية، حيث تمكن محمد بن يوسف من استغلال تسامح هذا المقيم للتقرب من الرموز الدينية والسياسية المغربية بواسطة الأسفار التي كان يقوم بها وبواسطة الاستقبالات التي كانت تخصص له في مختلف جهات المغرب حيث زادت هذه الاتصالات
- يضيف التقرير - من تمتين العلاقة بينه وبين شعبه.
لقد كان محمد بن يوسف واعياً بسيطرة فرنسا لذلك كان يحاول الحد من نفوذها بشتى الوسائل: يذكر التقرير أنه أصبح ينتقد تجاوزات إدارة الحماية، ويناقش التعيينات، ويحتج على أساليب الطرد التي كان يتعرض لها الموظفون المغاربة، كما كان يلجأ إلى اتخاذ أسلوب المماطلة في التوقيعات وذلك من أجل عرقلة السير العادي لإدارة الحماية[4]. وقد أوعز لأطره المخزنية بأن لا تنفذ إلا الأوامر الصادرة عنه. ولتقوية مكانة العرش الاجتماعية كلف ولي عهده المولى الحسن بمهام ذات دلالات شعبية كرئاسة الكشفية الإسلامية الحسنية سنة 1941-1942، والإشراف على بعض الأعمال الخيرية التي تعتبر أساسية في تقوية نفوذه الديني داخل المجتمع. وبذلك يؤكد التقرير استطاع هذا السلطان أن يجمع حوله كل القوى الاجتماعية ومن ضمنهم الجالية اليهودية التي كانت تتمتع بنفس الحقوق التي كان يتمتع بها باقي المغاربة[5].
محمد الخامس والمطالبة بالاستقلال
كانت زيارة محمد الخامس لفاس سنة 1934 وحفاوة الاستقبال التي نظمتها الحركة الوطنية مع الشعب[6]، البذرة الأولى في اتصال الملك بزعماء الحركة الوطنية وفي تضامنه واتفاقه معها، وقد استمر هذا الاتصال وتوطد مع الأيام بواسطة المذكرات والمطالب الذي كان الحزب يقدمها للملك في عدة مناسبات[7]، وقد كان السلطان يتلقى أخبار تحركات الحزب الوطني عن طريق أحد الموظفين الذين كانوا يدرسون بالمدرسة الخاصة لتعليم أبناء الملك وهو محمد الفاسي، وعن طريقه كان يرسل للحزب أخبار محادثاته مع الإقامة العامة في شأن إدارة البلاد. وتطورت هذه العلاقات إلى أن انتهت باتصال سري مباشر مع الهيئة المسيرة للحزب[8] في سنة 1943 حيث استقبلهم الملك في مخبإ خاص داخل القصر الملكي. وفي هذا اللقاء أقسم الطرفان على الإخلاص في خدمة الوطن، واتفقا على أن يستشير كل منهما الآخر قبل أي عمل وطني يقوم به. واستمرت الاتصالات[9] ليلاً في القصر بين الملك وأعضاء الحزب. وأسفرت عن بلورة مشروع المطالبة بالاستقلال وتحرير الوثيقة المشهورة التي أدت إلى خلق حزب الاستقلال[10]، وهذا التحالف الذي حصل بين الوطنيين الذين تزعموا التوقيع على الوثيقة[11] والسلطان هو الذي جعل التقرير الذي سبقت الإشارة إليه آنفاً يتحدث عن "الوطنية السلطانية" "Le nationalisme Sultanien" وينعت السلطان بزعيم الحركة الوطنية[12].
تم الاتفاق بين الملك محمد الخامس وزعماء الحركة الوطنية على الطريقة واليوم والساعة التي تقدم فيها العريضة، واعتبر يوم 11 يناير وهو اليوم الذي يستقبل فيه الملك المستشار الفرنسي المكلف بربط الاتصال بين الإقامة العامة والقصر الملكي، واقترح السلطان أن يستقبل الوفد الذي سيقدم له الوثيقة، قبل موعد المستشار بنصف ساعة ليطلعه على محتوى الوثيقة قبل أن تصل إلى الإقامة العامة[13].
ميثاق 11 يناير 1944 وردود الفعل المختلفة
أدانت الوثيقة نظام الحماية الذي أخل بالتزاماته القانونية والسياسية، وأكدت على رغبة المغاربة في حصولهم على استقلال بلادهم تحت حكم جلالة الملك محمد الخامس، وطالبت بالتفاوض مع كل من فرنسا وإسبانيا للاعتراف باستقلال المغرب، والانضمام إلى ميثاق الأطلنطي، ودعت الملك إلى رعاية حركة الإصلاح الذي يتوقف عليه المغرب، بإحداث نظام سياسي شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية في المشرق تحفظ الحقوق وتحدد الواجبات لجميع عناصر الشعب المغربي.
وفي 11 يناير قدمت وفود حزب الاستقلال نسخة من الوثيقة للملك محمد الخامس كما تم الاتفاق على ذلك، وأخرى للإقامة العامة، وكما رفعت نسختان للقنصلية البريطانية والأمريكية.
ومنذ تقديم الوثيقة توالت الوفود من مختلف جهات المغرب ومن مختلف الشرائح الاجتماعية على القصر الملكي معبرة عن تضامنها وعن استعدادها للتضحية إلى جانب الملك للحصول على الاستقلال.
وفي 13 يناير جمع الملك مجلساً موسعاً للمستشارين يتكون من وزراء وعلماء وباشوات وعرض عليهم الوثيقة التي تقدم بها حزب الاستقلال فأيدوه بالإجماع تحت تأثير الملك لأن بعضهم كان من الموالين لفرنسا[14]. وشكل لجنة وزارية لإجراء محادثات مع اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ومع الإقامة العامة في شأنها.
أما الإقامة العامة، فما كادت تتسلم الوثيقة حتى أعلنت رفضها التام لكلمة الاستقلال وأن معاهدة الحماية غير قابلة للتغيير. وقامت بعدة اتصالات بالملك محمد الخامس لتحويله عن فكرة الاستقلال، وتكررت المقابلات لإقناعه بالإصلاحات في ظل الحماية. وكما حاولت أن تعزل الملك بإبعاد بعض وزرائه الذين كانت تعتقد أنهم الصلة بين الملك وزعماء حزب الاستقلال ومن ضمنهم وزير العدل محمد بن العربي العلوي ووزير المعارف أحمد بركَاش.
وفي ليلة 28/ 29 يناير توجت فرنسا ضغوطها بإلقاء القبض على قادة الحزب وفي مقدمتهم أحمد بلافريج ومحمد اليزيدي وأحمد مكوار وعبد العزيز بن إدريس والهاشمي الفيلالي بتهمة الاتصال بألمانيا والإعداد لثورة مسلحة في المغرب، مما أدى إلى اندلاع انتفاضة يناير في عدد من المدن كالرباط وسلا وفاس ووجدة والدار البيضاء مطالبين بإطلاق سراح الزعماء، فتصدت لها سلطات الحماية بعنف شديد وأصدرت أحكاماً بالإعدام وأخرى بالسجن في حق عدد من المتظاهرين. ومن النتائج التي أعقبت هذه الانتفاضة إصرار الملك محمد الخامس على تنفيذ ما جاء في وثيقة 11 يناير 1944.
توتر العلاقات بين القصر والإقامة العامة
تحمل السلطان مسؤولية النضال إلى جانب الزعماء الوطنيين لحصول المغرب على استقلاله. وكان في كل خطب العرش التي كان يلقيها يوم 18 نونبر من كل سنة يؤكد أن نظام الحماية لم يعد صالحاً. وفي زيارته التي قام بها لفرنسا في سنة 1945 أكد للحكومة الفرنسية أن الوقت حان لحصول المغرب على استقلاله.
وفي أبريل 1947 قام الملك محمد الخامس برحلة إلى طنجة، وألقى فيها خطابه التاريخي الذي أكد فيه على وحدة المغرب الترابية تحت سلطة الملك وأن مستقبل البلاد مرتبط بالإسلام والعالم العربي والجامعة العربية. ولم يشر في خطابه إلى الجملة التي اقترح عليه المقيم العام إضافتها للخطبة والتي يعرب فيها عما للتعاون الفرنسي المغربي من قيمة في نظر جلالته، ويعتبر هذا التصرف تأكيداً لاستقلاله عن رقابة المقيم العام.
وكان لهذا الخطاب صدى كبير على المستوى الدولي، وكان أول إعلان رسمي دولي للملك بأنه يرفض الحماية. ومنذ تلك الفترة أصبحت العلاقات بين الإقامة العامة والقصر تزيد تأزماً، وأصبح السلطان لا يتردد في معاكسة مصالح فرنسا مدعياً أنه لا يمكن أن يكون مع فرنسا ضد شعبه وذهب السلطان إلى رفض التوقيع على الظهائر الجديدة. وزادت مضايقات سلطات الحماية على رجال الحركة الوطنية ولا سيما في عهد المقيم العام جوان وكَيوم الذي مارس ضغوطاً على الملك محمد الخامس لحمله على التنازل عن العرش وفي 20 غشت 1953 دبر مؤامرة خلعه ونفيه هو وأسرته إلى كورسيكا ثم إلى جزيرة مدغشقر وعين محمد بن عرفة ملكاً صورياً على المغرب ذلك ما جعل الحركة الوطنية تعود إلى أسلوب المقاومة المسلحة وتطالب بعودة الملك الشرعي محمد بن يوسف إلى وطنه