الحمدُ لله الذي أوجب علينا شكرَ نعمه بقوله: ﴿ وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل : 114]، والصَّلاة والسلام على خير العابدين وخيرِ الشاكرين، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
إنَّ من فضلِ الله وكرمه أَنْ أنعمَ علينا نعمًا لا تعد ولا تحصى، مذكِّرًا المنانُ الوهَّابُ عبادَه المؤمنين بأنه مهما بلغوا في تعدادِ وإحصاء النعم عليهم، فإنهم لن يستطيعوا أن يحصوها، مهما ابتغوا إلى ذلك سبيلاًَ، يقول - جل جلاله -: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل : 18]، لذلك على الإنسانِ أن يدركَ أنَّ عليه أن يتأمَّلَ ويتفكر في نعمِ الله عليه، فيتوجب عليه أن يبدأ متأمِّلاً لنفسِه واعيًا لنعم الله التترا عليه، وقد ذكَّرنا الله بها: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات : 21]، فأين أنت من تذكرِ وتفكر نعمِ المنعم الوهاب في نفسِك، ولتكن ممن يقدرُ نعمَ الله عليك، ولتتأمل كلَّ نعمةٍ في بدنِك من بصرٍ وسمع، وما بداخلك من أعضاء خلقها الله بأفضلِ صورة وأكمل هيئة وأحسن تقويم، وتأمل بصرَك، كيف أنك تبصر وغيرُك لا يرى إلا ظلامًا! ولتغمض عينيك دقائقَ، عندها ستعرفُ قدرَ هذه النعمةِ العظيمة، التي ربما تستخدمُها في النظرِ إلى ما يغضب الله، قال بكر بن عبدالله: "يا ابنَ آدم، إن أردتَ أن تعرفَ قدر ما أنعم الله عليك فغمِّضْ عينيك"؛ عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين؛ لابن القيم.
وقس عليها كلَّ عضوٍ من أعضائك التي وهبك الله إياها وستعرفُ عندها قدرَ نعمة الله عليك، والتي قصَّرتَ في شكرها، ولا غرو أن هذا يدعونا لشكرِه شكرًا يليقُ بجلاله قولاً وفعلاً، سرًّا وجهرًا، باللسانِ وبالقلب والجوارح، على نعمِه العظيمة وآلائه الجسيمة، وقد قال ابن القيم - رحمه الله -: "والشكرُ يتعلَّقُ بالقلبِ واللسان والجوارح؛ فالقلبُ للمعرفةِ والمحبة، واللسانُ للثناءِ والحمد والجوارح، لاستعمالِها في طاعةِ المشكور، وكفها عن معاصيه"؛ عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
فلنتذكر نعمَ الله في كلِّ وقت وحين شاكرين لأنعمِه، فبشكرها تدوم وتتنامى وتزداد، وبكفرِها يحصلُ الحرمان والبلاء وتوالي العذاب؛ يقول العلي العظيم: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم : 7]، فلنشكرْ الشكورَ على نعمه وعطاياه، ولا ننتظر أن تزولَ النعمة ثم نفقدها فنعرف قدرَها، فنبادر إلى الشكرِ بعدها، ولنكن مستجيبين لما أمرنا الله به - سبحانه وتعالى - بقوله: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة : 152].
ولندعوه كما وصى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - معاذَ بن جبل - رضي الله عنه - فعن معاذِ بنِ جبلٍ قال: أخذ بيدي النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يا معاذُ))، قلتُ: لبيكَ، قال: ((إنِّي أُحِبُّكَ))، قلتُ: وأنا والله أحبُّكَ، قال: ((ألا أعلِّمُك كلماتٍ تقولها في دبر كُلِّ صلاتك؟))، قلت: نعم، قال: ((قل: اللهمَّ أعِنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتِكَ))؛ رواه البخاري.
وما حثُّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أحاديثه في أذكارِ اليوم والليلة إلا دليلٌ على فضلِ وشرف هذه النعمة؛ فعن عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان من دعاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم إني أعوذ بك من زوالِ نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتِك، وجميع سخطك))؛ رواه مسلم).
وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوصي أصحابَه بسؤال الله العافيةَ في الدنيا والآخرة، وما ذاك إلا لقدرِ هذه النعمةِ العظيمة، التي تقاصرت هممنا في طلبِها لانشغالنا بالدُّنيا وزينتها، فكثيرًا ما نسأل بعضنا عن أشياء من متاعِ الحياة الدنيا، وتجدنا نهتمُّ ونحرصُ على ذلك مهما كلَّفنا من وقتٍ، بينما نهملُ جانبًا عظيمًا وصَّى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - به عمَّه وعلَّمَه دعاءً عظيمًا، ولا يوصي إلا بعظيمٍ؛ فعن أبي الفضلِ العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: قلتُ يا رسول الله، علِّمني شيئًا أسأله الله - تعالى - قال: ((سلوا الله العافية))، فمكثتُ أيامًا، ثم جئتُ فقلتُ: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله - تعالى - قال لي: ((يا عباس يا عم رسول الله، سلوا الله العافيةَ في الدنيا والآخرة))؛ رواه التِّرمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ولنعي قولَ ابن القيم - رحمه الله - عن الشكرِ؛ يقول: "وشكرُ العبد يدور على ثلاثةِ أركان لا يكون شكورًا إلا بمجموعها؛ أحدها: اعترافه بنعمةِ الله عليه، والثاني: الثناء عليه بها، والثالث: الاستعانة بها على مرضاتِه"؛ عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
ومتى ما أراد الإنسانُ أن يعرفَ قدر نعمِ الله عليه، فلينظر إلى من هم حوله من المرضى والمبتلين، الذين أُخذت منهم نعمةٌ لخيرٍ لهم في الدنيا والآخرة، وعندها سيعرفُ الإنسانُ فضلَ الله ونعمه عليه، فكن ممن يصرفون نعمةَ الصحة والعافية في طاعةِ الله قبل أن يأتيَك يومٌ يفاجئك المرضُ، ثم لا تستطيع كما كنتَ صحيحًا معافًا، لذلك عليك أن تغتنمَ عافيتك وصحتك فيما ينفعك؛ فعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ والفراغ))؛ رواه البخاري، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اغتنم خمسًا قبل خمس...))، وذكر منها: ((صحتَك قبل سقمك، وفراغَك قبل شغلِك))؛ أخرجه ابن المبارك في الزهد، والحاكم (4/306)، والمنذري في الترغيب (4/251).
وقال وهب بن منبه: "رؤوس النِّعم ثلاثة؛ فأولها: نعمةُ الإسلامِ التي لا تتمُّ نعمُه إلا بها، والثانية: نعمةُ العافية التي لا تطيبُ الحياةُ إلا بها، والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتمُّ العيشُ إلا به"؛ عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم.
وختامًا: أوصيكم ونفسي بالإكثارِ من الدعاء الذي وصَّى به سيدُ المرسلين - صلَّى الله عليه وسلَّم - معاذًا - رضي الله عنه -: ((اللهمَّ أعني على ذكرِك، وشكرِك وحسنِ عبادتك)).
وكن من القلةِ الذين وصفهم الله سبحانه بقوله - تعالى -: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ : 13]، وذكر الإمامُ أحمد - رحمه الله - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سمع رجلاً يقول: اللهمَّ اجعلني من الأقلِّين، فقال: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله قال: ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود : 40]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ : 13]، وقال: ﴿ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص : 24]، فقال عمر: صدقت؛ أخرجه أحمد في الزهد (142).
ربنا أوزعنا أن نشكرَ نعمتَك التي أنعمتَ علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحًا ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتِنا، وتب علينا، اللهم عافنا في أبداننا، وعافنا في أسماعِنا، وفي أبصارنا، لا إله إلا أنت، اللهم ما أصبح أو أمسى بنا من نعمةٍ فمنك وحدك لا شريكَ لك؛ فلك الحمد ولك الشكر، اللهمَّ إنا نصبحُ ونمسي في نعمةٍ وعافية وستر دائمٍِ فأتم نعمتَك علينا وعافيتك وسترَك في الدنيا والآخرة.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
منقول للفائدة